البكاء هو استجابةٌ للحزن والألم، ولكنّه كذلك للفرح والإثارة والارتياح. لماذا تسبِّب المشاعر الإيجابيّة البكاء، وما الفرق بين دموع الحزن ودموع الفرح؟

تُذرَف دموع الفرح من أعيننا عندما نمتلئ بمشاعر مكتظّة بالفرح، النّشوة أو الامتنان. على الرّغم من أنّ البكاء يرتبط عادة بتجارب مؤلمة، إلّا أنّ التّجارب الإيجابيّة للغاية، مثل: تلقّي جائزة، عرض زواج، أو مشاهدة فيلم عاطفيّ قد تتسبّب في ذرف النّاس للدموع. أي أنّ البكاء هو ما يحدث لنا عندما نكون مُثقَلين عاطفيًّا ونتجاوز عتبة قدرتنا على احتواء أنفسنا، حتّى ولو كانت المشاعر إيجابيّة. الدّموع هي السِّمة الأكثر وضوحًا للبكاء. تفرِز أعيننا الدّموع باستمرار لحماية طبقة العيْن من العوامل الخارجيّة، وتُسمّى هذه الدّموع بالدّموع الأساسيّة (Basal tears)، وهي تتدفّق إلى الأنف باستمرار دون أن تتساقط من العين. تعتبَر الزّيادة في إنتاج الدّموع كشكلٍ من أشكال التّعبير العاطفيّ أمراً فريداً من نوعه عند البشر، لكنّ دراسة حديثة قامت بقياس الزّيادة في إفراز الدّموع عند الكلاب عند لقائهم مع أصحابهم مقارنةً بلقاء شخصيّة مألوفة أخرى، تتحدّى هذا الادّعاء. كذلك فإنّ البكاء لا يكون دموعًا فقط، بل هو أيضًا أصوات أنين وأنفاس متقطّعة يتمّ التّعبير عنها أيضًا لدى  الحيوانات. على أيّ حال، على الأقلّ بين أواسط البشر، البكاء هو تجربة عالميّة- ولهذا السّبب حاول العديد من الباحثين فكّ اللّغز: لماذا نبكي من الفرح؟

البكاء هو أمرٌ صِحّيّ لنا، لأنّه عبارة عن فعل يخلق الاسترخاء العاطفيّ والجسديّ. يسعى الجسم دائمًا إلى العودة إلى مستوياته الأساسيّة في جميع مؤشّراتنا الفسيولوجيّة والعاطفيّة. إنّ عواطفنا، وبالتّأكيد العواطف الإيجابيّة القويّة، مثل تلك الّتي تجعلنا نبكي من السّعادة، قد تؤدّي إلى اختلال هذا التّوازن من خلال زيادة معدّل ضربات القلب وضغط الدّم، كما تؤثِّر على معدل تنفّسنا. يتمّ تنظيم الإثارة العالية للجسم بواسطة الجهاز العصبيّ الذّاتيّ، والّذي يتكوّن من نظاميْن فرعيّيْن يعملان في عمليّة عكسيّة: الجهاز العصبيّ الودّيّ والجهاز العصبيّ اللّاودّيّ. يكون الجهاز الودّيّ نشطًا بشكل رئيسيّ في حالات الطّوارئ، عندما نكون في حالة تأهّب، ويجهّزنا لاتّخاذ الإجراءات. لذلك، عندما يكون الجهاز الودّيّ نشطًا، نلحظ  زيادة في معدّل ضربات القلب، ارتفاعًا في ضغط الدّم والتّنفّس القصير والسّريع. في المقابل، يكون الجهاز العصبيّ اللّاودّيّ نشطًا أثناء الرّاحة أو الاسترخاء. وقد أظهرت دراسات مختلفة زيادة في نشاط الجهاز الودّيّ، على سبيل المثال: زيادة في معدّل ضربات القلب وتوصيل الجلد قُبيل البكاء. ولكن النّقطة الأكثر أهمّيّة هي أنّه في مرحلة ما بعد البكاء، يعود التّوازن بين نشاط الجهازيْن الودّيّ واللّاودّيّ إلى مستوياته الأساسيّة. لذلك، يبدو أنّ البكاء هو إحدى الطّرق الّتي يستخدمها الجهاز اللّاودّيّ لقمع نشاط الجهاز الودّيّ وإعادة النّظام الفسيولوجيّ إلى التّوازن.


يتمّ إنتاج الدّموع في الغُدّة الموجودة فوق الجفن على الجانب الأيسر من الصّورة، ويتمّ تصريفها بشكلٍ مستمرّ إلى الأنف من خلال الأنابيب الموجودة على اليمين. إنّ زيادة إنتاج الدّموع كتعبيرٍ عن المشاعر هي ظاهرة عالميّة وفريدة (تقريبًا) لدى البشر | رسم توضيحيّ:  BO VEISLAND / SCIENCE PHOTO LIBRARY

انفجار من الرّاحة

تقع منطقة الدّماغ المسؤولة عن التّعبيرات العاطفيّة، مثل البكاء في جذع الدّماغ، وتسمّى السّنجابيّة المحيطة بالمسال أو المادّة الرّماديّة المتواجدة حول المسال المُخّيّ (Periaqueductal gray; PAG). تتلقّى الخلايا الموجودة في السّنجابيّة المحيطة بالمسال مُدخَلات من نظامنا العاطفيّ (الجهاز النّطاقيّ، Limbic System)، ثمّ تنفِّذ برنامجًا حركيًّا مناسبًا للتّعبير عن المشاعر، مثل: الضحك والبكاء من الفرح. بإمكان كلّ مكوّن من مكوّنات البكاء، سواء الأصوات النّاتجة، تقلّصات العضلات، التّشنّجات التّنفسيّة أو الدّموع، أن يساعد في توفير الرّاحة بطرق أخرى. على سبيل المثال، سوف نوضّح كيفيّة تحقيق التّوازن بين الأنظمة المختلفة من خلال مثال مكوِّن الدّموع.

عندما نبكي من الفرح، يتمّ إنتاج الدّموع بواسطة الغُدد الدّمعيّة الموجودة بالقرب من محاجر العين. هناك عددٌ من النّهايات العصبيّة الّتي تُغذّي الغدد، وبالتّالي تقوم بتنشيطها أو بتثبيط نشاطها. الأعصاب الّتي تتحكّم في نشاط الغُدد تنتمي إلى الجهازيْن الودّيّ ( Sympathetic nervous system) واللّاودّيّ (Parasympathetic nervous system)، ولكن الأعصاب الّتي تنتمي إلى الجهاز اللّاودّيّ، والّتي ترتبط بحالة الاسترخاء، هي الّتي تشجِّع على إنتاج الدّموع. من ناحية أخرى، فإنّ النّظام الودّيّ هو الّذي يقوم بتثبيط نشاطها. وهذا يعني أنّ الجهاز اللّاودّيّ يشجِّع على إنتاج الدّموع بغرض تقليل الإثارة المتزايدة الّتي تراكمت سابقًا بسبب نشاط الجهاز الودّيّ.

هل هناك شيء في الدّموع نفسها يبعث على الرّاحة؟ يؤدّي نشاط الجهاز اللّاودّيّ إلى إفراز مادّة الأستيل كولين في الغدّة الدّمعيّة، وهي المادّة المسؤولة عن إطلاق بعض الموادّ الّتي تتكوّن منها الدّموع. إنّ تركيبة الدّموع الّتي يتمّ إفرازها بعد الانفعال القويّ تختلف عن تركيبة الدّموع الأساسيّة الّتي يتمّ إفرازها باستمرار لحماية العين. تحتوي الدّموع العاطفيّة على مجموعة متنوّعة من الإلكتروليتات والبروتينات، بما في ذلك الهرمونات وغيرها من الموادّ الّتي تؤثِّر على الحالة المزاجيّة. وهكذا، تساعد الدّموع على إطلاق الموادّ الكيميائيّة كجزء من تجربة التّحرّر العاطفيّ على المستوى الفسيولوجيّ.

 أحد الموادّ الموجودة بمستويات عالية في الدّموع هو هرمون الكورتيزول، وهو هرمون مرتبط بالتّوتّر. لذلك، كانت الفرضيّة هي أنّنا نزيل كمّيّة الكورتيزول الزّائدة من الجسم عندما نبكي. ولاختبار ذلك تجريبيًّا، طَلَبنا من مجموعة من النساء أن يشاهدن فيلماً عاطفيّاً على أمل أن يدفعهنّ ذلك إلى ذرف الدّموع العاطفيّة، وقمنا بقياس مستويات الكورتيزول في الدّم قبل مشاهدة الفيلم وبعده. عند النّساء اللّاتي بكيْنَ أثناء عرض الفيلم، كانت مستويات الكورتيزول في الدّم أقلّ بالفعل بعد الفحص مقارنةً بالنّساء اللّاتي لم يبكين. وكانت النّتيجة أنّ البكاء يساعد على تقليل التّوتّر واستعادة التّوازن في النّظام.

بالإضافة إلى ذلك، هناك فرضيّات مفادها أنّ البكاء ينطوي على عوامل أخرى تؤثِّر بشكلٍ إيجابيّ على مزاجنا. على سبيل المثال، من المعروف عمومًا أنّ هرمون الأوكسيتوسين، المعروف باسم هرمون الحبّ، يعمل على زيادة مشاعر الاسترخاء وخفض مستويات الكورتيزول في الجسم. تشير معظم الدّراسات إلى أهمّيّته في الاستجابة لبكاء شخص آخر، وخاصّة في سياق الأبوّة/الأمومة، إلّا أنّ دراسات قليلة بحثت علاقتها المباشرة بالبكاء. مع ذلك، فقد وُجِد أنّ الهرمون يشارك في نشاط الجهاز اللّاودّيّ، ومؤخّرًا، أظهرت دراسة أُجريت على الكلاب أنّه يشارك في زيادة إفراز الدّموع. هناك أيضًا نتائج تشير إلى أن البكاء أو الضحك، يرافقهما إفراز معزّز بالإندورفينات، وهي موادّ طبيعيّة تُفرَز في الدّماغ وتخلِق شعورًا بالنّشوة.


تحتوي الدّموع العاطفيّة على موادّ تؤثِّر على الحالة المزاجيّة وتساعد على التّحرّر العاطفيّ على المستوى الفسيولوجيّ. رجل يبكي أمام شاشة الحاسوب | صورة توضيحيّة: Khosro, Shutterstock

ما يوجد في الدّموع؟

يبدو أنّ الموادّ الموجودة في الدّموع لا تؤثِّر علينا فقط، بل تؤثّر على الآخرين أيضًا. في دراسة أجراها البروفيسور نعوم سوبل من معهد وايزمان للعلوم، جمع الباحثون دموعًا ناتجة عن البكاء حُزنًا لدى النّساء، وفحصوا تركيبها وكيفيّة تأثيرها على الرّجال. وجد الباحثون أنّ الدّموع النّاجمة عن الغضب تؤدّي إلى انخفاض الرّغبة الجنسيّة ومستويات هرمون التّستوستيرون لدى الرّجال. ولذلك، يمكننا الافتراض أنّ ثمّة فرق في التّركيب الكيميائيّ بين دموع الحزن ودموع الفرح. في الواقع، توصّلت دراسة حديثة إلى أنّ التّركيبة تختلف بين الدّموع الأساسيّة، دموع الحزن ودموع الفرح. ربما يكون هذا جزءًا من الآليّة الّتي تُستَخدم بها الدّموع كوسيلة للتّواصل بين النّاس. تتوافق النّتائج المتعلّقة بالتّركيب الكيميائيّ للدّموع مع نتائج الدّراسات النّفسيّة، الّتي تُظهِر أنّنا نستخدِم البكاء أيضًا لتجنيد الآخرين للحصول على الدّعم الاجتماعيّ، وتشجيع التّعاطف والقرب. وقد عزّزت دراسات أخرى هذا التّقييم عندما أظهرتْ أنّ النّاس يبكون أكثر في وجود الآخرين مقارنةً بالبكاء بمفردهم.

أظهرت دراسة صغيرة قامت بقياس نشاط الدّماغ لدى البشر أثناء تراكم البكاء وإطلاقه، وجود تزامن بين الجهاز العصبيّ المركزيّ والجهاز العصبيّ الذّاتيّ. استخدم باحثون من اليابان تقنيّة التّحليل الطّيفيّ بالأشعة تحت الحمراء، الّتي تقيس التّغيُّرات في مستوى الأكسجين في الدّم. وهذا مقياس غير مباشر لنشاط الدّماغ، إذ تستهلك الخلايا العصبيّة النّشِطة كمّيّة أكبر من الأكسجين. شاهد ثمانية أشخاص فيلمًا مؤثِّرًا جدًّا حدّ ذرف الدّموع، وأثناء المشاهدة، قام الباحثون بقياس مستوى أكسجة الدّم في أدمغتهم. في المرحلة الّتي سبقت بداية البكاء، كانت هناك زيادة تدريجيّة في النّشاط في القشرة الجبهيّة الأماميّة الوسطى (mPFC)، وهي المنطقة المرتبطة بالتّنظيم العاطفيّ. وفي الوقت نفسه، تمّ قياس زيادة في معدّل ضربات القلب، وهو ما يعكس الفيْض العاطفيّ ونشاط الجهاز الودّيّ. وبمجرد بدء البكاء، لوحظت زيادة حادّة في النّشاط في القشرة الجبهيّة، ويعتقد الباحثون أنّ هذه الزّيادة تمثِّل الانتقال بين النّشاط الودّيّ والنّشاط اللّاودّيّ. بعد البكاء، أفاد المشاركون الّذين بكوا أنّهم شعروا بقدرْ أكبر من الوضوح مقارنة بمن لم يبكوا، وهو ما يدعم فرضيّة تنشيط الجهاز اللّاودّيّ.

في نهاية المطاف، البكاء من الفرح هو طريقة جسمنا للتّعامل مع موجات المشاعر الشّديدة، وتنظيمها بطريقة تعزّز صحّتنا العقليّة. لذا، في المرّة القادمة الّتي تشعُر فيها برغبة في البكاء وذرف الدّموع، دعها تخرج. الجسد يعرف جيّدًا ما يفعل.

استجابة واحدة

  • 🦂

    00:00

    رائع
    البكاء من الفرح هو طريقة جسمنا للتّعامل مع موجات المشاعر الشّديدة، وتنظيمها بطريقة تعزّز صحّتنا العقليّة. لذا، في المرّة القادمة الّتي تشعُر فيها برغبة في البكاء وذرف الدّموع، دعها تخرج. الجسد يعرف جيّدًا ما يفعل.