من شرائح اللّحم المليئة بالعُصارة وحتّى البيرة الدّاكنة، يقف تفاعل ميلارد وراء تكوين النّكهات المركّبة والمظهر الجذّاب للطعام

الخبز الطّازج، البيرة الدّاكنة، اللحم المشويّ، البيض البنّي، وكذلك القهوة والشوكولاتة- جميع هذه الأطعمة، والمتفاوتة بنكهاتها بشكل كبير، تستند إلى نفس التفاعل الكيميائيّ، الّذي يُعرف بِتفاعل ميلارد. 

سُمّي هذا التّفاعل نسبةً إلى العالم الفرنسيّ لويس كاميل ميلارد (Louis Camille Maillard)، الّذي اكتشف في سنة 1912، أنّ تسخين الأحماض الأمينيّة مع السّكريّات، يؤدّي إلى تكوين لون بنّيّ. نتيجةً لمعرفته السّابقة باحتواء الغذاء على السُكريّات والبروتينات، والّتي تتكوّن بدورها من أحماضٍ أمينيّة، استنتج ميلارد أنَّ التّفاعل بينهما هو المسؤول عن اللّوْن البنّيّ المميّز للعديد من الأطعمة المطهوّة، مثل قشرة الخبز المخبوز أو اللّحم المشويّ. 

 منذ انتشار مقال ميلارد الرّائد، أُجريت الكثير من الدّراسات حول تفاعل ميلارد، والّتي كشفت بدورها عن تنوّع العمليّات الكيميائيّة في التّفاعل وتعدّد نواتِجه. ساهمت دراسة وفهم هذا التّفاعل في تحليل العديد من التّفاعلات الكيميائيّة والفيزيائيّة المصاحبة لعمليّة الطّهو، ما أدّى إلى بناءِ قواعد علميّة مدروسة تساعد الطّهاة والمحترفين في إضفاء النّكهات والروائح لأطباقهم ومخبوزاتهم المختلفة. لتوضيح التّفاعل سنقدّم وصفة شرائح لحم مشويّة في المقلاة. 

ماذا نحتاج؟  

  • قطعتان من شرائح اللّحم البقريّ مع العظم، سُمك القطعة 3.5 سم على الأقلّ؛ حوالي 450 غرامًا  للقطعة. يمكن استخدام أنواع أخرى من اللّحم بنفس السّمك.

  • ملح. 

  • 4 ملاعق من الّزيت (60 مل).

  • فلفل أسود مطحون طازج.

  • بضع شتلات من الزّعتر (اختياريّ).

  • بصل شالوت مقطّع (اختياريّ).

סטייק מוכן לצלייה | צילום: DronG, Shutterstock
السُمك مهمّ أيضًا. شريحة لحم جاهزة للشيّ | تصوير: DronG, Shutterstock

طريقة التّحضير: 

  • نُجفّف شرائح اللّحم بمناديل ورقيّة، ونُتبّلها من الجهتَين بكميّة وفيرة من الملح. نترك شرائح اللّحم  بدرجة حرارة الغرفة لمدّة تتراوح بين 40 دقيقة وساعتين. بدلًا من ذلك، يمكننا أن نترك شرائح اللّحم في الثّلاجة على طبق أو شبكة فوق ورق الخبيز لليلة كامِلة، نخرج الشّرائح من الثّلاجة قبل التحضير بـ 40 دقيقة على الأقلّ.

  • في مقلاة كبيرة من الفولاذ المقاوم للصدأ (الستانليس ستيل- Stainless steel)، نُسخّن ملعقتيْن كبيرتيْن من الزّيت على نار عالية، عندما يصبح الزّيت ساخنًا جدًّا، نتبّل شرائح اللّحم بالفلفل ونقليها في المقلاة. نحرص على تقليب الشّرائح بشكلٍ مستمرّ باستخدام الملقط حتّى تكتسب لونًا بنّيًّا من جميع الجوانب. (يمكن تحمير الزوايا عن طريق إمساك شريحة اللحم من الجوانب باستخدام الملقط).

  • للحصول على شريحة لحم نيئة، يجب أن تصل درجة الحرارة الدّاخليّة إلى 43 درجة مئويّة، أو 54 درجة مئويّة لشريحة لحم نصف نيئة (Medium Rare). بالمجمل يجب أن لا يتجاوز وقت القلي ال 6-12 دقيقة، حسب السُّمك. ستستمرّ عمليّة الطهو قليلًا حتّى بعد رفع المقلاة عن النار.

  • إلى المقلاة، نقوم باضافة ملعقتين من الزّيت ،البصل المقطّع، والزّعتر، ونستمر بالتّحريك لدقيقتين إضافيتين.

نقلب شرائح اللحم باستمرار أثناء القلي. 

  • نخرج شرائح اللّحم من المقلاة، ونتركها لترتاح في مكان دافئ لمدة لا تقلّ عن 5 دقائق قبل التّقديم.

אינפוגרפיקה

 

والآن، القليل من العلوم:

تفاعل ميلارد هو سلسلة من التّفاعلات الكيميائيّة المسؤولة عن لون وطعم ورائحة العديد من المأكولات. تبدأ هذه السّلسلة بتفاعل بين الكربوهيدرات والأحماض الأمينيّة المكوّنة للبروتينات. خلال هذه العمليّة تتشكّل مجموعة من المركَّبات الوسطيّة غير المستقرة، والّتي تستمرّ في سلسلة من التفاعلات الإضافيّة. تنتج عن هذه التّفاعلات حصيلة من المركّبات المسؤولة عن النّكهات القويّة، الألوان الدّاكنة والرّوائح المهيمنة على الطعام.

يمتلك تفاعل ميلارد أهميّة تطوّريّة كبيرة، حيث يلعب كلٌّ من اللون، الطّعم والرّائحة دور المحفّزات الأساسيّة الّتي تدفعنا إلى اختيار الأطعمة الغنيّة بالطّاقة والفيتامينات، والآمنة للاستهلاك. لذلك قد يكون من الأنسب تسمية التّفاعل " بالتّفاعل الفاتِح للشّهيّة" بدلًا من "تفاعل التّحمير أو التفاعل البنّيّ". 

يتأثّر تفاعل ميلارد بعدّة عوامل، أبرزها درجة الحرارة، حيث تؤثّر الحرارة المرتفعة ومدّة التّعرّض لها في سير التّفاعل. يُعدّ هذا التّفاعل تفاعلاً أساسيًّا في عمليّة الطهو، نظرًا لاحتواء معظم الأغذية على البروتينات والكربوهيدرات. عند ارتفاع درجة الحرارة، تتفكّك البروتينات والكربوهايدرات إلى مكوّناتها الأساسيّة. في الظّروف المناسبة، تتشكّل روابط كيميائيّة بين الأحماض الأمينيّة والسكريّات- وهي من الكربوهايدراتـ لتنتج المئات من مركّبات الطّعم والرّائحة. من بين هذه المركّبات، تبرز الميلانويدينات (Melanoidin) وهي مركّبات كيميائيّة كبيرة وداكنة مسؤولة عن اللّون البنّيّ للعديد من الأطعمة. يمكن العثور على هذه المركّبات في القهوة، المخبوزات، رقائق البطاطس، الكاكاو، الشّعير المحمّص، اللّحوم المشويّة، وغيرها من الأطعمة.

يبدأ تفاعل ميلارد عند درجة حرارة 120 درجة مئويّة، ويزداد معدّل التّفاعل بازدياد درجة الحرارة. يرجع ذلك إلى أنَّ الحرارة تعزّز من سرعة التّفاعلات الكيميائيّة الّتي تحدث أثناء الطّهو وتسرّع من عمليّة تبخّر الماء. بمعنى آخر، يؤدّي تبخّر الماء إلى ارتفاع درجات الحرارة بشكل أسرع ولمستوياتٍ أعلى، ما يزيد من تركيز الموادّ المتفاعلة، وبالتالي إلى زيادة سرعة التّفاعل. 

لذلك يعدّ الماء العامل الرئيس الثّاني في تفاعلات ميلارد. حيّث إنَّ المأكولات ذات تركيز الماء المرتفع لا تخضع لهذه السلسلة من التفاعلات، لأنَّ درجة الحرارة أثناء الطّهو لا تتجاوز درجة غليان الماء، 100 درجة مئويّة عند مستوى سطح البحر. لهذا السبب، لا تكتسب الأطعمة المطهوّة في الميكرويف لوناً بنيًّا. يعتمد مبدأ الطهو بالميكروويف على تحويل الطاقة الكهرومغناطيسيّة إلى طاقة حراريّة، إذ تقوم جزيئات الماء في الطّعام بامتصاص الطاقة المنبعثة من الموجات الكهرومغناطيسيّة للجهاز، ما يؤدّي إلى ارتفاع درجة حرارة الطعام دون أن تتجاوز حاجز ال 100 درجة. وبذلك لا يمكن حدوث تفاعل ميلارد، وبالتالي لن يتحوّل لون الطّعام إلى اللّون البنّيّ المُحمّر. 

عندما نقوم بشيّ قطعة من شرائح اللّحم على مقلاة ملتهبة، فإنَّ المنطقة الوحيدة الّتي تخضع لتفاعل ميلارد هي سطح قطعة اللّحم. حيث تعمل الحرارة المرتفعة على تجفيف سطح الشّريحة، ما يسمح لدرجة حرارته بتجاوز ال 140 درجة مئويّة. وبهذه الطريقة، ينتج عن هذا التفاعل نكهات وروائح غنيّة، بالإضافة إلى اللون البنّيّ المميّز. لهذا السبب، يُوصى بتحمير قطعة اللّحم من جميع الاتّجاهات في بداية عمليّة القلي، للحصول على طبق مُحمّر من الخارج ومليئ بالعصارة من الداخل. 

צליית סטייק על להבה פתוחה | צילום: Joshua Resnick, Shutterstock
يتيح الجمع بين درجة الحرارة العالية وتبخّر الماء من حدوث تفاعل ميلارد، والّذي يُكسب اللحم لونه البنّيّ. شيّ  قطعة من اللّحم على نار ملتهبة | تصوير: Joshua Resnick, Shutterstock

اعتبارات إضافيّة

يُنصَح الطّهاة الراغبون في تعزيز تفاعل ميلارد باستخدام أواني طهو بحجم مناسب لكميّة الطعام، وتجنّب تكديس المكوّنات داخلها. على سبيل المثال، عند قلي كميّة كبيرة من الفطر في مقلاة صغيرة وممتلئة، فلن يكتسب الفطر اللّون البنّيّ. وعلى خلاف ذلك، إذا قمنا بتقليل كميّة الفطر بشكل ملحوظ، سوف تتحمّر قطع الفطر بالتأكيد. يعود السبب في ذلك إلى كميّة الماء. خلال عمليّة الطهو، تخرج جزيئات الماء من الفطر، وإذا كانت قاعدة المقلاة مغطّاة بالكامل بحبّات الفطر، سيمنع الماء المنبعث منها ارتفاع درجة الحرارة إلى المستوى اللازم لتفعيل تفاعل ميلارد. أمّا إذا كانت قطع الفطر متفرّقة وغير متكدّسة، فسيتبخّر الماء فور خروجه، ما يسمح بارتفاع درجة حرارة الإناء، وتجاوز نقطة غليان الماء، وبالتالي حدوث تفاعل ميلارد.   

من الممكن تفعيل تفاعل ميلارد بالأغذية الغنيّة بالسوائل عن طريق استخدام أواني الضغط. حيث يؤدّي ارتفاع الضغط في الإناء إلى ارتفاع درجة غليان الماء إلى أكثر من 120 درجة مئويّة، ما يتيح حدوث التفاعل. 

تؤثّر كلّ من درجة الحموضة والقلويّة للطعام في تفاعل ميلارد. حيث تعتبر البيئة القلويّة البيئة المُثلى لحدوث التّفاعل. وذلك لأنّ البروتينات في الوسط القاعديّ، تميل إلى التفكّك بسهولة لأحماض أمينيّة حرّة، والّتي تتفاعل بسرعة أكبر مع بعض السكريّات. مثال على ذلك تحضير مخبوزات البريتزل (Brezel)، إذ يتمّ غمر البايغل (Bagel) في محلول قلويّ للحصول على لون بنّيّ وروائح زكيّة. تعتبر بايكربونات الصوديوم (صودا الخبز) مادّة قلويّة، لذلك عند إضافة القليل منها أثناء طهو البصل، يتحوّل لونه إلى البنّيّ بشكل أسرع. لنفس السبب تستخدم صودا الخبز في تحضير عجينة التمبورا (tempora) وتتبيلات اللّحوم المشويّة. في الوسط القلويّ، من الممكن حدوث تفاعل ميلارد في درجات حرارة أقلّ من المعتاد، ولكن بشكل أبطأ، ما يستدعي وقت طهو أطول بشكلٍ ملحوظ. هذه العمليّة تفسّر السبب وراء اللّون البنّيّ لطبق الحمين. 

الفرق بين شرائح اللحم والكعك

تتأثّر نكهات وروائح وألوان الطعام بالعلاقة بين المكوّنات الأساسيّة في تفاعل ميلارد- البروتينات والكربوهيدرات. حيث تحوي كلّ من خمائر الكعك وشرائح اللّحم نفس المكوّنات الأساسيّة ولكن بنسب متفاوتة، حيث تعدّ البروتينات المكوّن الأساسيّ للّحوم، بينما تشكّل الكربوهيدرات النسبة الأكبر في خمائر الكعك. يلعب هذا الفرق دورًا أساسيًّا يفي تفاعلات الطّهو المرتبطة بارتفاع درجة الحرارة، حيث لا يقتصر تأثيره في تفاعل ميلادر وحسب، بل في تفاعلات أخرى، كتفاعل الكرملة. 

تنتج الكرملة من عمليّة الانحلال الحراريّ (Pyrolysis)- سلسلة من التّفاعلات الّتي تتفكّك خلالها جزيئات   السكّر وتتشكّل موادّ جديدة. تختلف صفات هذه الموادّ، فبعضها مُرّ أو حامض، وبعضها الآخر يبعث روائح قويّة، والآخر عديم الطعم والرائحة، لكنه يمنح الكراميل لونه البُنّيّ المميّز. تزداد مرارة السكّر بازدياد وقت الكرملة، حيث يفقد مذاقه الحلو ويزداد لونه قتامة. 

עוגיות שיצאו מהתנור | צילום: BirdShutterB, Shutterstock
يميل السكّر إلى التكرمل، مقارنة بالبروتين الّذي يخضع لتفاعل ميلارد، لذلك نحصل على قوام وأطعمة مختلفة في الحلويّات. كعك طازج | تصوير: BirdShutterB, Shutterstock

في الحلويّات، يبرز تفاعل الكرملة أثناء عمليّة الطهو، بسبب تركيبة الحلويّات الغنيّة بالسكّريّات، والّتي تفوق كميّة البروتينات. بالمقابل، تفوق كميّة البروتينات في شرائح اللّحم كميّة السكّريّات، ولذلك يكون تفاعل ميلارد فيها أكثر وضوحًا من تفاعل الكرملة. ومع ذلك، من الممكن حدوث كلا التفاعلَين في كلّ من قطعة اللّحم والكعك، ولكن بنسبة مختلفة. لذلك نحصل على نكهات وروائح مختلفة من كلّ تفاعل. 

على الرغم من التّغيّرات المرغوبة في النكهات والألوان، قد يؤثّر تفاعل ميلارد في القيمة الغذائيّة للأطعمة، إذ يؤدّي هذا التفاعل إلى هدم الكثير من الأحماض الأمينيّة وتحويلها إلى مركّبات أخرى أقلّ فائدة للجسم. 

إنّ تفاعل ميلارد يتأثّر بوقت ودرجة حرارة الطهو، ما يتطلّب الكثير من الممارسة والمهارة للحصول على النتائج المرجوّة. بينما يبدع الطّاهي المتمرّس في اختيار الظروف الملائمة لاستخراج النكهات المرغوبة. في المقابل، من الصعب أن يتحكّم الطهاة المنزليّون في العوامل المهمّة، مثل سُمك قطعة اللّحم، وقت الشيّ، وشدّة اللّهب ما قد يؤدّي إلى اختلاف النكهات في كلّ مرّة. يعتبر تفاعل ميلارد دليلًا آخر على أنّ الطهو هو الحلقة الّتي تربط بين العلم والمذاق، حيث يقودنا العلم والمعرفة بالعوامل المؤثّرة في تفاعلات الطعام إلى الحصول على النكهات والروائح المرغوبة بدقّة مرّةً تلو الأخرى.

وصحتين!

 

0 تعليقات